المعضلة الطائفيَّة في السياسة الخارجية الإيرانية

https://rasanah-iiis.org/?p=5109

بواسطةباسم راشد

ليس من قبيل التهويل القول بأن إيران تلعب دورًا إقليميًّا بارزًا في الصراعات الدائرة في منطقة الشرق الأوسط، من واقع دعمها المستمرّ والفعَّال لحلفائها في تلك الصراعات في كل من العراق وسوريا واليمن، الأمر الذي وضعها في مواجهة شبه دائمة مع غالبية جيرانها، وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية.
وتتجاوز تلك المواجهة الطبيعة السياسية أو الاستراتيجية، بل إنها في الأساس طبيعة “طائفيَّة”، لأن إيران وكل حلفائها من الطائفة الشِّيعيَّة، ويحاربون معًا القوات السُّنيَّة المدعومة من الدول ذات الأغلبية السُّنيَّة. ولعلَّ ذلك التجاذُب هو ما عمَّق الطبيعة النوعية لأزمات المنطقة بحيث أضفى عليها البُعد الطائفيّ، مِمَّا أسهم في تفاقم النزاعات السياسية بينها وبين غالبية جيرانها السُّنَّة.
وعلى مدار تاريخها، كانت السياسة الخارجية الإيرانية أقرب إلى السياسة الواقعية التي تهدف في الأساس إلى تحقيق المصالح الاستراتيجية للدولة، بصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى. بَيْد أن السنوات الأخيرة، التي تبعت إسقاط نظام صَدَّام حسين في العراق، قد شهدت نموَّا ملحوظًا للمُكوِّن الهُوِيَّاتي في سياسة إيران الخارجية، وأضحى السلوك الطائفيّ حاضرًا بقوة في تلك السياسات من خلال دعمها لحلفائها الشِّيعة على امتداد الإقليم.

» هل إيران فاعل طائفيّ؟
لا شك في أن الأنشطة الإيرانية في الشرق الأوسط طائفيَّة في طبيعتها، بخاصة في ضوء انخراطها في الصراعات في سوريا والعراق واليمن. كذلك لا شكّ في أن حلفاء إيران في تلك الصراعات، مثل حزب الله اللبناني والميليشيات العراقية، ليسوا من السُّنَّة، لأنهم إما يتشاركون نفس الأفكار الشِّيعيَّة التي تتبعها إيران، بل ويعتبرون إيران قائدًا لهم، وإما يتماهَون مع الأشكال الأخرى من الإسلام الشِّيعيّ مثل العلويين في سوريا أو الزيديين في اليمن.
وتُعطِي تلك الصلة بين إيران وحلفائها الشِّيعة على اختلافهم طابعًا طائفيًّا في سياستها الخارجية، بَيْد أن التساؤل الذي يُثار هنا هو: هل السياسة الخارجية الإيرانية تتشكَّل طبقًا للمصالح الطائفيَّة بالأساس، أم أن الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك؟
للإجابة عن هذا التساؤل ينبغي الوقوف على بعض النقاط الأساسية:

أولًا: للسياسة الخارجية الإيرانية مستويان، كلاهما يشرف عليه القائد الأعلى ويخضع لسلطته، لكنها يختلفان من حيث الشكل والمضمون، ويرتبط المستوى الأول بالعلاقات مع الدول المختلفة، وتديره في الغالب الحكومة المنتخَبة في طهران. أما المستوى الثاني فيرتبط بالعلاقات مع العملاء من غير الدول، يُشرِف عليه ويُديره “الحرس الثوري الإيراني”، ويتمّ في الغالب خارج اختصاص الحكومة.

ثانيًا: تبدو السياسة الخارجية الإيرانية في غالبية الأحيان متناقضة، فعلى الرغم من سعي إيران للحفاظ على نظام الحكومة الإسلامية، وادّعاءاتها المستمرَّة برفض الأمركة والصهيونية، فإن علاقاتها الخارجية تُظهِر صورة مختلفة عن تلك الصورة التي تحاول تصديرها إلى العالم.
فإيران تحتفظ بعلاقات قوية ومُثمِرة مع عدد من الدول ذات الأنظمة غير الإسلامية، فمثلًا إيران مشهورة بقربها من الهند عن جارتها المسلمة باكستان، كذلك طالما فضَّلت طهران أرمينيا المسيحية في نزاعها الدائم مع أذربيجان المسلمة، كما لم يجد القادة الإيرانيون سواء العسكريون والمدنيون أي صعوبة في تعزيز الروابط مع الأنظمة الملحدة أيضًا بما فيها الصين وكوريا الشمالية وفنزويلا.

ثالثًا: توجد علاقة “مُرِيبة” قائمة بين إيران وتنظيم القاعدة، إذ يبدو أن إيران سمحت لبعض نشطاء التنظيم بالعيش بحُرِّيَّة داخل إيران، كما تشير وثائق وزارة المالية الأمريكية في 2016، لكن تفاصيل تلك العلاقة ما زالت غير واضحة.
فعلى الرغم من أن الطرفين ينخرطان في حرب في كل من سوريا واليمن، فإنه يبدو أنهما قد طوَّرا شكلًا من أشكال علاقة المنفعة المتبادلة، على الأقل في ما يتعلق بوجود بعض أعضاء التنظيم للعمل من داخل إيران كشكل من أشكال النفوذ يمكن استخدامه في أوقات مختلفة ضدّ الولايات المتحدة أو ضدّ جيرانها كالسعودية أو باكستان، أو ربما في مقابل عدم تنفيذ عمليات في داخل إيران أو على حدودها، أو لعل إيران تتعامل معهم كرهائن لديها تستخدمهم في ما بعد.
من ثم يمكن القول إن معظم علاقات إيران الخارجية ليست مدفوعة بالاعتبارات الآيديولوجية أو الدينية، لكنها، كمعظم الدول، قائمة على عدة عوامل ترتبط بمصالحها الاستراتيجية والاقتصادية، فضلًا عن الميول الواقعية لها، التي مكَّنَتها من الدخول في صفقات تَسَلُّح مع الولايات المتحدة وإسرائيل في أثناء حرب الخليج، والحفاظ على العلاقة المحدودة مع “القاعدة”، وإبرام شراكة استراتيجية مع روسيا.

» تصدير الثورة وظهور عملاء إيران
ظلّت فكرة تصدير الثورة حاضرة في فكر الخُميني منذ تأسيس نظام ولاية الفقيه بعد الثورة الإسلامية عام 1979، بخاصة أنها قامت بالأساس، وفوق كل شيء، لرفض التدخُّل الأجنبي في أمور البلاد.
ورغم أن الخُميني كان يخاطب دائمًا في تلك الفترة التي أعقبت الثورة عموم المسلمين، ويسعى لتوحيد المسلمين جميعًا باختلاف طوائفهم في ظلّ نظام إسلامي، فإن تلك الدعوات لم تَلْقَ صدًى واسعًا بين الدول المسلمة، سواء في إقليم الشرق الأوسط أو في إقليم آسيا والمحيط الهادي.
فتأييد إيران الإسلامية لحركة “فتح” في صراعهم مع إسرائيل كان أحد تَجلِّيَات تلك الأفكار، بَيْد أنه بعد دعم ياسر عرفات للعراق في حربها ضدّ إيران سُحب هذا الدعم للدولة الفلسطينية، لكنه استمر في ما بعد للقضية نفسها من خلال عملاء إيران الشِّيعة في فلسطين، وتَحوَّل الأمر إلى دعم طائفيّ أكثر منه دعمًا إسلاميًّا للقضية في حدّ ذاتها. كذلك نفس الوضع في لبنان التي استطاعت إيران أن تؤسِّس لها في داخلها ذراعًا قويَّة متمثلة في حزب الله، وأعطت له الدعم الكامل في حربه ضدّ إسرائيل.
ورغم نجاح إيران الداخلي في تأسيس نظام سياسي إسلامي للدولة، فإن الفكرة لم تكُن على قدر كبير من الجذب للدول العربية أو للسُّنَّة في مختلف الأقاليم السياسية، بل إن آيديولوجيا الخُميني نفسها تَعرَّضَت لانتقادات كبيرة من جانب المجتمعات الشِّيعيَّة نفسها، لأنها تخالف الطبيعة النوعية لدور رجال الدين في تلك المجتمعات وتجعلهم مُشرِفين لـ”ولاية الفقيه” على السياسات العامة، وعملية اتخاذ القرار، بما جعل فكرة تصدير الثورة محدودة الأثر رغم كل ذلك.
ونتيجة لفشل فكرة تصدير الثورة، لم تستطِع إيران تأسيس علاقات رسمية على مستوى الدول في إطار أفكارها الطائفيَّة إلا مع نظام الأسد في سوريا الذي شاركها نفس التوجُّهات، لكنها في أغلب الأقاليم الأخرى لم تستطِع إلا أن تتعامل من خلال عملاء من دول الدول، سواء حماس في فلسطين، أو حزب الله في لبنان، أو الحوثيين في اليمن، أو الميليشيات التابعة لها في العراق، وهو ما أعطاها ميزة من ناحية أنها يمكنها تصعيد الأمور ضدّ الدول الرسمية من خلال هؤلاء الوكلاء دون أن يظهر صراحةً في الصورة بشكل رسمي أنها وراء ذلك الدعم.

» الطائفيَّة الإيرانية والربيع العربي
لم يكُن الربيع العربيّ مُنشِئًا للطائفيَّة الواضحة في السلوك الإقليميّ لإيران بقدر ما كان كاشفًا عنه، لأنه أظهر حجم التناقض في السلوك الإيراني من ناحية، وعمَّق من فكرة الطائفيَّة في سياساتها الخارجية من ناحية أخرى.
فمع بدء التظاهرات في بعض دول الربيع العربي، سارعت إيران إلى الترحيب بها، واعتبرت أن المطالب التي رفعها المتظاهرون في ميادين دول الثورات كافة مطالب شرعية، وأن حقوق المواطنين وأصواتهم لا بد أن تُسمَع.
بَيْد أن المظاهرات التي اندلعت في البحرين قد أخذت طابعًا أكثر تأييدًا وطائفيَّة في الوقت ذاته، إذ أعطى المسؤولون الرسميون في إيران اهتمامًا خاصًّا بتلك المظاهرات، بل ودَعَوْا عائلة خليفة السُّنيَّة المالكة في البحرين لاحترام إرادة المواطنين، الأمر الذي أثار مخاوف لدى دول الخليج من أن يكون للإيرانيين دور في تحريك تلك التظاهرات.
ورغم تأكيد إيران طوال الوقت أنها غير طائفيَّة في سياساتها، لأنها لديها دول أصدقاء من السُّنَّة، فإن هذا لم يفلح في طمأنة وتهدئة دول الخليج. وقد استطاعت السلطات البحرينية، بعد التدخُّل العسكري لدول الخليج بقيادة السعودية في البحرين، القبض على بعض النشطاء التابعين للحرس الثوري الإيراني، الذين كان لهم يد في تلك التظاهرات الأخيرة.
بَيْد أن ذلك التأييد الواضح من إيران لثورات الربيع العربي اختلف تمامًا حينما طالت الثورات حليفها الأسد في سوريا، فإذا كانت إيران أيَّدت المظاهرات في البحرين، فإنها أدانت ما سمَّته “المؤامرة الخارجية لزعزعة الاستقرار في سوريا”.
ويمكن تفسير ذلك من منطلقين أساسيَّيْن: الأول طبيعة المصالح الاستراتيجية بين إيران وسوريا، بخاصة أن الأخيرة هي الحليف الوحيد لإيران في المنطقة، والأكثر أهمية لكونها محور الاستراتيجية الإيرانية ضدّ كل من إسرائيل والولايات المتحدة، فضلًا عن أنها، أي سوريا، عضو أساسيّ في محور المقاومة الإيراني.
أما المنطلق الثاني فهو طائفيّ بالأساس، إذ اعتبرت إيران أنه إذا سقط الأسد فالذي سيحلّ محلّه بالضرورة سيكون إما حليفًا للولايات المتحدة، العدو الأكبر لإيران، وإما حليفًا لدول الخليج السُّنَّية، بما يستلزم ضرورة الوقوف بجانب الأسد لحماية المجتمع الشِّيعيّ داخل سوريا.
ونتيجة لذلك المنطق، ومع استمرار الحرب، ساعدت إيران الأسد، لا من خلال الأسلحة والدعم المادِّيّ فقط، بل أيضًا بتسهيل دخول حزب الله اللبناني والميليشيات الشِّيعيَّة العراقية والمرتزقة الشِّيعة من أفغانستان وباكستان، لمساعدته في الحرب ومواجهة حركات المعارضة السُّنيَّة في الداخل.
من ناحية أخرى، تعتمد إيران طوال الوقت في استراتيجيتها الطائفيَّة على اتهام السُّنَّة، خصوصًا المملكة السعودية، بأنهم تكفيريون، كنوع من محاولات تشويه صورة الآخَر المخالِف، لكسب شرعية في الحرب ضدّه، بخاصة في العراق وسوريا، وذلك عن طريق التأكيد الدائم أن “هؤلاء لا يمثِّلون السُّنَّة الحقيقيَّة”، بما يبرِّر، في وجهة نظرهم، سلوكهم الإقليميّ.
وختامًا، يمكن الإشارة إلى بعض الاستنتاجات الهامَّة التي تفسَّر السلوك الطائفيّ الإيراني في المنطقة، لعلَّ أبرزها:
أن الهُوِيَّة والمعتقدات الدينية توجِّه السياسة الخارجية الإيرانية، لكنها ليست المعيار الوحيد لها، إذ لا تظهر الهُوِيَّة الدينية في العلاقات الرسمية بين الدول، لكنها تبدو أكثر وضوحًا مع الجماعات والفاعلين من غير الدول.
أن العمليات الإيرانية في سوريا أبرز مثال على السلوك الطائفيّ لإيران، نظرًا إلى ما فعلته من تسهيل دخول عملائها الشِّيعة إلى الداخل السوري للحفاظ على نظام الأسد.
أنه لا يمكن فصل الأنشطة الطائفيَّة التي تنفّذها إيران عن السياق الطائفيّ العامّ الذي اندلع في الإقليم، وهو ما تستغلّه إيران دومًا لتأكيد أن سلوكها مجرَّد ردّ فعل لمواجهة ما تصفه بـ”التطرُّف السُنِّي المدعوم من جيرانها”، كمبرِّر لسلوكها الطائفيّ.


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المركز

باسم راشد
باسم راشد
باحث متخصص في الشؤون الإقليمية