إيران تواصل سياستها التوسُّعية ومناكفة دول المنطقة

https://rasanah-iiis.org/?p=7115

يبدو أن إيران ماضية في تنفيذ استراتيجيتها التوسُّعية، دون أدنى نيَّة لتغيير سلوكها وتدخُّلاتها في دول المنطقة، ودون إدراك منها لعمق الأزمات التي أحدثتها هذه الاستراتيجية.
تغلِّف إيران سياستها التوسُّعية في المنطقة بغلاف آيديولوجي وتعطيه مشروعية سياسية، وفي أوقات أخرى تبرِّرها بمحاربة “التنظيمات التكفيرية” في المنطقة، والتصدِّي للإرهاب ومنع وصوله لأراضيها.
ما المواقف الإيرانيَّة الحقيقية من الأزمات التي تعصف بالمنطقة؟ وما المواقف المزيفة؟ وكيف تنظر إيران إلى التقارب التركي-الخليجي؟
للإجابة عن هذه الأسئلة يمكن القول إن الموقف الإيرانيّ الحقيقيّ من التطوُّرات التي تشهدها المنطقة هو ضرورة استمرار الحرب في سوريا واليمن لضمان تحقيق أهدافها المتمثلة في تكريس موقعها الإقليمي.

ففي سوريا تخوض إيران معركة “بقاء الأسد” مع عدد كبير من الميليشيات الطائفية التابعة لها، لتضمن لنفسها مواصلة نفوذها في هذا البلد. وعلى المستوى السياسي تسعى إيران لفرض نفسها قطبًا أساسيًّا ومؤثِّرًا في محادثات أستانة، وذلك لتعزيز دورها ومستقبلها في سوريا.
أما في اليمن فلا يزال الإيرانيُّون يواصلون دعمهم السخي للحوثيين في محاولة منهم لاستنساخ التجربة الإيرانيَّة والاستمرار في مناكفة دول الخليج.
فإيران التي استغلت المساحة الديمقراطية الواسعة التي ميزت مناخ اليمن بعد الثَّورة، عبر دعمها الحوثيين وتشجيعهم على الانقلاب على الشرعية وابتلاع الدولة، واعتبار أن اليمن يمثِّل امتدادًا طبيعيًّا لإيران، لا تزال تواصل تقديم الدعم لميليشيات الحوثي، متجاهلةً في ذلك كل الدعوات الدولية التي تطالب بوقف دعمها العسكري والمعنوي لهذه الميليشيات التي تُصِرّ على العبث بأمن واستقرار اليمن.
فقد كشفت اعترافات جديدة لعدد من قادة وعناصر الحوثيين الذين أُلقِي القبض عليهم مؤخَّرًا في عدد من جبهات القتال، أن خبراء إيرانيين ولبنانيين من حزب الله يدربون مليشيات الحوثي على مختلف أنواع الأسلحة في معسكرات سرية بصعدة.
وفي فبراير الماضي وجَّهَت الحكومة اليمنية رسالة رسميَّة إلى مجلس الأمن الدولي، شَكَت فيها استمرار التدخُّل الإيرانيّ في الشؤون الداخليَّة لليمن ودعمها المالي والسياسي والعسكري لجماعة الحوثي، واستمرار النِّظام الإيرانيّ في إرسال شحنات الأسلحة والذخائر للمتمردين في اليمن، فضلًا عن استمراره في التحريض على الحرب. وما يعزِّز اتهامات الحكومة اليمنية هو اعتراض البحرية الأسترالية شحنة ضخمة من الأسلحة، ثبت في ما بعد أنها أسلحة إيرانيَّة كانت موجَّهة إلى المتمردين الحوثيين.
أما العراق الذي وجدت فيه ايران منطلَقًا لبسط نفوذها الإقليمي عقب سقوط نظام صدام حسين واحتلال الولايات المتَّحدة وحلفائها له، فلا يزال تحت تأثير النفوذ الإيرانيّ القويّ الناتج عن إمساك الأحزاب والشخصيات السياسية المحسوبة على طهران بمفاصل الدولة. ولا تزال إيران تواصل سياستها الناجحة في تهميش بقيَّة المكوِّنات كما تحاول استنساخ تجربتها في العراق، إضافة إلى تحويله إلى ساحة لخدمة مشروعها التوسُّعي وتصفية الحسابات من خلال ميليشيات موَّلها ودرَّبها الحرس الثوري الإيرانيّ.
المواقف المزيَّفة في الخطاب الإيرانيّ تجاه الأزمات التي تشهدها المنطقة، يتمثَّل في ما نسمعه من حين إلى آخَر حول رغبة المسؤولين الإيرانيّين في التعاون مع دول المنطقة لوضع حدّ للتوتُّرات السياسية والأمنية الناجمة أصلًا عن تدخُّلاتها المباشرة في سوريا واليمن والعراق، واتِّباع سياسة قل أن تُوصَف بالعدائية تجاه السعوديَّة والبحرين والإمارات.
الموقف المزيَّف الآخر في الخطاب الإيرانيّ تجاه أزمات المنطقة، هو ظهور إيران بمظهر البراءة وارتداؤها عباءة المظلومية وذلك من خلال ادّعائها أنها قدّمَت تضحيات كبيرة وكثيرة في سبيل مكافحة الإرهاب وأنها أنقذت سوريا والعراق من تنظيم داعش وبقية التنظيمات الإرهابية، فضلًا عن مغازلة الدول الغربية وحثّها على تأكيد أهمِّيَّة الدور الإيرانيّ في مكافحة الإرهاب، بخاصَّة بعد أن بات موضوع مكافحة الإرهاب يَحظَى باهتمام خاصّ من الغرب الذي تَعرَّض عدد من دوله لهجمات إرهابية مباشرة كتلك التي شهدتها فرنسا وبلجيكا، في حين نجدها تساند بقوة عددًا من الميليشيات التي تقتل على الهُوِيَّة في العراق وسوريا واليمن، وتتغافل عن دورها في دعم هذه الميليشيات التي تمارس فظاعات لا تقلُّ وحشية عمَّا تمارسه التنظيمات الإرهابية الأخرى.
لكن حقيقة الأمر أن إيران تسعى من خلال ادِّعائها مكافحة الإرهاب، لتبرير تدخُّلاتها في دول المنطقة والتغطية على دورها السلبي وانتهاكاتها الخطيرة في هذه الدول، فضلًا عن رغبتها في تعزيز قدرتها على المشاركة في عملية إعادة صياغة الترتيبات الأمنية والاستراتيجية في المنطقة ولعب دور إقليمي وتحسين علاقاتها الدولية وتقليل حدَّة العَداء لها في الأوساط الدولية.
اللافت في الأمر أن إيران التي ظلَّت لسنوات تدعم التنظيمات الشِّيعِيَّة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، ولم تتضرَّر يوما واحدًا من الهجمات الإرهابية التي يشنُّها تنظيم داعش ومِن قبلة القاعدة على دول المنطقة، لا تزال تكيل التهم لدول المنطقة بتمويل ورعاية الإرهاب، دون أن تقدِّم دليلًا واحدًا يدعم اتهاماتها التي لم تجد صدًى كبيرًا لدى الدول والمراقبين، ومؤخَّرًا جرَت الرياح بما لا تشتهي السفن الإيرانيَّة، بعد أن وجَّه بعض الحكومات الغربية اتهامات إلى إيران برعاية الإرهاب، كما وصفت وزارة الخارجيَّة الأمريكيَّة النِّظام الإيرانيّ بأنه الراعي الأكبر للإرهاب في العالَم.
تقوم السياسة الخارجيَّة الإيرانيَّة في ما يتعلق بدول المنطقة على استراتيجية قوميَّة محورها بناء إيران كقوة إقليمية كبرى لا تنافسها دولة إقليمية أخرى، وإجبار المجتمع الدولي على الاعتراف بهذه الحقيقة.
إحدى أهم آليات تنفيذ هذه الاستراتيجية هي التدخُّل والتوسُّع في دول المنطقة عبر التدخُّل المباشر كما هو الحال في سوريا والعراق، وتقديم الدعم المادي والمعنوي لعدد كبير من الحركات والميليشيات في اليمن وعدد آخر من الدول.
ورغم تبادل الزيارات بين المسؤولين الأتراك والإيرانيّين وإبرام عدد كبير من الاتِّفاقيات الاقتصادية خلال الشهور الماضية، وحاجة كلا البلدين إلى الآخَر في كثير من الملفَّات الاقتصادية والسياسية، فإن استمرار التدخُّلات والمواقف الإيرانيَّة المعلنة والصريحة وانعكاساتها الخطرة على دول المنطقة، أثار حفيظة الجانب التركي، فوجَّه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أثناء زيارته الأخيرة للبحرين انتقادات شديدة إلى إيران، واتهمها بأنها تسعى لتقسيم العراق وسوريا وتتصرف من منطلقات قوميَّة، في حين قال وزير خارجيته مسعود جاويش أوغلو على هامش مؤتمر ميونخ للأمن، إن إيران تسعى لتأسيس دولتين شيعيتين في سوريا والعراق، وحذَّر من خطورة هذا الأمر، ودعا إلى وقف هذا المخطَّط. وجاء الردّ الإيرانيّ على لسان المتحدث باسم الخارجيَّة الإيرانيَّة بهرام قاسمي، الذي وصف تصريحات أردوغان ووزير خارجيته بـ”المهاترات”، وقال إن بلاده ستواصل صبرها على هذه المواقف التركية، لكنه حذَّر من أن “لصبر بلاده حدودًا”، وفق تعبيره. أما المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين فقال في تصريح لافت إن على الإيرانيّين أن يعيدوا حساباتهم في ما يخصّ علاقاتهم بدول المنطقة والعالَم واتهم طهران بمحاولة اكتساب نفوذ خارج حدودها، بخاصَّة في سوريا والعراق.
الطموحات الإيرانيَّة المتنامية والتي لا تراعي أي اعتبار لدول الجوار، لا تزال تمثِّل مبعث قلق مشترَك لكل من تركيا ودول المنطقة، لا سيما في ظل عدم اتِّضاح الرؤية المستقبلية الأوروبيَّة في التعاطي مع إيران، وعدم اتضاح ما إذا كانت إدارة ترامب سوف تتّخذ إجراءات عملية لكبح جماح التدخُّلات الإيرانيَّة؟
مِن ثَمَّ جاءت زيارة أردوغان الخليجية الأخيرة بهدف بحث التغييرات والتطوُّرات السياسية التي تشهدها دول المنطقة، والدعوة إلى موقف مشترَك لمواجهة الإرهاب ووقف التمدُّد الإيرانيّ الذي بات يشكل خطرًا كبيرًا على الأمن الإقليمي.
تدرك إيران أن أي تقارب تركي-خليجي، لا سيما مع السعوديَّة، سينعكس لا على مستوى العلاقات الثنائية بين الرياض وأنقرة فقط، بل وعلى المستوى الإقليمي والدولي، ومن هذا المنطلق تنظر إيران إلى أي تقارب بين البلدين، إلى أنه قد يدفع بتكوين تحالفات جديدة في المنطقة تغيِّر موازين القوى وينعكس سلبًا على استراتيجيتها التوسُّعية، لذا فقد انزعجت إيران كثيرًا من زيارة أردوغان الخليجية الأخيرة، لا سيَّما وأنها جاءت في ظل تباين وجهات النظر التركية والإيرانيَّة في عدد من الملفَّات، أبرزها سوريا والعراق، في الوقت الذي تتطابق فيه مواقف وتوجهات تركيا والدول الخليجية.
وتنظر إيران إلى موضوع التقارب السعوديّ-التركي خلال الفترة الأخيرة إلى أنه قد يكون بداية لفشل خُطَطها الرامية إلى الحيلولة دون أي تعاون وتنسيق بين أنقرة ودول المنطقة.
كما ترى إيران أن الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب يريد إحياء محور الاعتدال العربي، ويريد أن يعبئ هذا المحور السُّنِّيّ في مواجهة إيران، وأن أردوغان بدأ التركيز على القلق الخليجي من صعود إيران ويحاول أن يُدخِل بلاده في هذا المحور بهدف تَزَعُّمه، أو لعب دور مؤثِّر فيه.
إضافةً إلى ذلك فقد تبلور اعتقاد إيرانيّ عقب وصول ترامب إلى البيت الأبيض، بأن السعوديَّة وتركيا تسعيان لاستثمار التوجُّه الأمريكيّ الجديد ضدّ إيران لتحقيق مكاسب في سوريا واليمن والعراق وفرض وجهتَي نظرهما في بقية ملفَّات المنطقة، ومن هنا يتوجَّه جزء كبير من الجهود الإيرانيَّة نحو منع تبلور أي استراتيجية مضادَّة أو موقف سعوديّ-تركي يهدف إلى محاصرة طموحاتها وأطماعها المتنامية، وذلك لاعتقاد المسؤولين الإيرانيّين أنه لم تعُد دولةٌ إقليميةٌ قادرةً على الوقوف في وجه الاستراتيجية الإيرانيَّة التوسُّعية في دول المنطقة سوى المملكة العربية السعوديَّة وتركيا.


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المركز

د.معتصم صديق عبدالله
د.معتصم صديق عبدالله
باحث سياسي بالمعهد الدولي للدراسات الإيرانية