تراجع أسعار صرف العملة الإيرانية: الأسباب والتداعيات

https://rasanah-iiis.org/?p=4927

مقدّمة
انخفض سعر صرف الريال الإيراني أو التومان الإيراني مؤخَّرًا أمام الدولار بدرجة كبيرة (التومان الإيراني يساوي 10 ريالات إيرانية)، فوصل السعر الرسمي المعلن في البنك المركزي الإيراني للدولار الأمريكي خلال الأسبوع الأول من ديسمبر الحالي إلى 3230 تومانًا إيرانيًّا، مقارنة بـ3050 تومانًا إيرانيًّا قبل 6 أشهر، أي في يوليو من العام الحالي. أما سعر الدولار الأمريكي في السوق الحرة، الذي يصل الفارق بينه وبين السعر الحكومي إلى 20% أو أكثر في بعض الأحيان، فقد تجاوز حاجز 4000 تومان إيراني لكل دولار. فما أسباب الأزمة؟ وماذا النتائج المترتبة اقتصاديًّا واجتماعيًّا عن التغيُّر الكبير في سعر صرف التومان الإيراني أمام العملات الأجنبية؟

» تطوُّر سعر صرف التومان الإيراني أمام الدولار
قبل أن نوضّح ما حدث وأسباب الانخفاض الكبير للعملة الإيرانية في الوقت الراهن، ينبغي الإلمام بجذور الأزمة الحقيقية وتطوُّرها وأسباب تفاقمها حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن، وذلك من خلال نظرة سريعة إلى الماضي، إذ مرّت إيران بطفرات وتغيُّرات عديدة في سعر الصرف منذ تسعينيات القرن الماضي، متأثرًا بالطبيعة السياسية الخاصَّة والمتوتِّرة مع القوى الكبرى في العالَم، والحصار الاقتصادي الخانق الذي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية عليها منذ التسعينيات، وتبعه حصار دوليّ مع بدايات الألفية الثانية، ثم عقوبات غربية مغلَّظة منذ 2012 على أثر تطويرها برنامجها النووي، وكان أعمقها تأثيرًا هو فرض الحظر على الصادرات النِّفْطية، عصب الاقتصاد الإيراني والمصدر شبه الكُلِّيّ للعملة الأجنبية، بعد حصار أمريكي دام سنوات طويلة. ومع كل أزمة من الأزمات السابقة يتأثّر سعر صرف العملة الإيرانية أمام الدولار وباقي العملات الأجنبية.

يبيِّن الرسم البياني السابق القفزات السعرية الكبيرة لسعر الصرف الرسمي خلال فترات زمنية طويلة، التي بدأت بارتفاع كبير بعد عام 2001، ثم بلغ هذا الارتفاع 430% في عام 2003 ليسجل سعر الصرف 758 تومانًا لكل دولار، مقارنةً باستقرار نسبي للسعر حول 143 تومانًا طوال الفترة من 1992 حتى 2001، واستمر ارتفاع الدولار وانخفاض التومان تدريجيًّا حتى وصل الدولار إلى 1200 تومان في 2012، ومنذ ذلك العام أصبح الدولار يرتفع بوتيرة سريعة جدًّا أمام التومان الإيراني ليسجل في عام 2013 نحو 2500 تومان في مقابل كل دولار، وبنسبة ارتفاع بلغت 108% خلال سنة واحدة مع بدء سريان الحظر النِّفْطي والدولي، واستمر مسلسل انخفاض التومان ليسجّل الدولار 2800 تومان في 2015.
ومنذ بداية العام الحاليّ 2016 لم يتوقف انخفاض سعر التومان على الرغم من رفع الحظر الدولي واستئناف الصادرات النِّفْطية إلى الخارج، إذ كان سعر الصرف الحكومي في بداية العام يدور حول 3020 تومانًا للدولار، واستمر في الانخفاض بمعدَّلات شبه ثابتة حتى شهر أكتوبر مسجِّلًا 3170 تومانًا، ثم حدث انخفاض أكبر في مُدّة زمنية أقلّ خلال شهر نوفمبر مسجِّلًا 3220 تومانًا لكل دولار، في حين اقترب صرف الدولار في السوق الحرة من 4000 في نوفمبر ووصل بالفعل إلى 4000 خلال ديسمبر بعد أن كان يدور حول 3500 تومان في السوق الحرة خلال الأشهُر الستة الماضية.

» أسباب أزمة سعر الصرف في إيران
يرجع الانخفاض الأخير لسعر صرف التومان مقابل الدولار والعملات الأجنبية الأخرى بدرجة كبيرة إلى التأثر بعوامل خارجية حدثت في شهر نوفمبر الماضي تمثلت في فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية، وهو المعروف بتشدُّده تجاه إيران، وزيادة التوقُّعات التشاؤمية تجاه مستقبل الاقتصاد الإيراني مع قدومه للسلطة بسبب تهديداته المتكررة بإلغاء الاتفاق النووي الذي وقّعَته بلاده مع إيران منتصف 2015. تهديد مثل هذا له بالغ الأثر السلبي على قدوم الاستثمارات الأجنبية إلى إيران وخوف المستثمرين الأجانب من الوقوع تحت طائلة الغرامات المالية الأمريكية، هذا من ناحية الأثر على الاقتصاد الإيراني.
من ناحية أخرى، فمع نجاح ترامب ارتفع سقف الطموحات والتوقُّعات المتفائلة تجاه الاقتصاد الأمريكي، وهو ما انعكس بشكل مباشر على قوة الدولار الأمريكي عالَميًّا أمام باقي العملات، ومنها العملة الإيرانية بالتأكيد، بعد الكشف عن توجُّهات سياسته الاقتصادية الحمائية للصناعة الأمريكية والمنتج المحلِّي وإلغاء بعض الاتفاقيات التجارية التي تحرم الخزانة الأمريكية من الرسوم الجمركية وتزيد منافسة المنتج الأجنبي للمنتج الأمريكي، وغيرها من التوجهات الاقتصادية التي تسير على نفس المنوال، مما عزز الآمال في زيادة قوة الاقتصاد الأمريكي، وانعكس هذا على البورصة الأمريكية وسعر الدولار أمام باقي العملات.
لكن أزمة سعر الصرف في إيران لها جذور قديمة وأسباب عميقة أكثر من مجرَّد التأثر العارض بعوامل خارجية رغم كونها مؤثّرة على المدى القصير، وتطور سعر الصرف خلال السنوات السابقة -كما سبق وبيَّنَّا- يؤكّد تجدُّد تدهور العملة الإيرانية بشكل دوري مع كل أزمة سياسة أو اقتصادية تَتَعَرَّض لها إيران مع العالَم الخارجي.
لذلك فمن الضروري تحليل الأسباب العميقة للأزمة في النقاط التالية:
1 – تراجع موارد الدولة من العملة الأجنبية تأثرًا بتوتُّر العلاقات السياسية مع الغرب على مدار عقود من الزمن أدّت إلى حصار تجاري دام طويلًا، وازادت حدة الأزمة بداية من عام 2012 مع حظر الصادرات النِّفْطية، المصدر الرئيسي للعملات الأجنبية في إيران، واستمرار تجميد أصول إيرانية في الخارج. ولا توجد بيانات رسمية مؤكَّدة عن تَطَوُّر حجم الاحتياطي على مدار السنوات السابقة، لكن المصادر الدولية تشير إلى أنها سجّلَت 115-125 مليار دولار في عام 2015، بينما تفيد تصريحات لوزير الاقتصاد الإيراني في ديسمبر 2016 بأن حجم الاحتياطي الأجنبي لإيران يبلغ 100 مليار دولار، بِمَا يعني انخفاض الاحتياطي الأجنبي بنسب تتراوح بين 15 و20 في المئة في 2016، وهي نسب تراجُع كبيرة في عام واحد.
2 – وجود أكثر من سعر صرف في إيران على مدار التاريخ، إذ يوجد سعر الصرف الحكومي المثبَّت، وسعر صرف السوق الحرة، وسعر صرف المرجع، والأخير هو الذي كانت تتعامل به الحكومة مع المؤسَّسات الاقتصادية المملوكة لها، وأُلغِيَ في مارس 2013 كمرحلة أولى ضمن سلسلة إجراءات تتخذها الحكومة للسيطرة على تدهوُر سعر الصرف والقضاء على السوق الموازية، وتخطِّط الحكومة لتفعيل المرحلة الثانية في مارس 2017 بتوحيد سعر الصرف عن طريق البنوك، ويجري التعامل بالسعر الحر فقط. جدير بالذِّكْر أن إيران اتبعت سياسة توحيد سعر الصرف من قَبْل خلال التسعينيات، لكن لم تستمرّ هذه السياسة مِمَّا فتح المجال لعودة السوق الموازية.
3 – تنامي دور السوق الموازية في إيران وعدم قدرة الحكومة على إحكام سيطرتها عليها ليتّسع الفارق بين السعرين بسبب عدم مقدرة الحكومة على تلبية الطلب على العملة الأجنبية بشكل كافٍ، فيتوجه الطلب إلى السوق الموازية للإيفاء باحتياجاته من العملة ولكن بسعر أعلى من السعر الحكومي، ويصل الفارق إلى بين السعرين إلى نحو 20% أو أكثر في بعض الأحيان.
4 – عجز الموازنة الحكومية واعتماد إيران في الحصول على العملة الأجنبية من مصدر متقلّب وغير مستقرّ، وهو إيرادات صادرات النِّفْط، ومع تدنّي أسعار النِّفْط منذ عامين إلى الآن يزداد عجز الموازنة الحكومية كلّما زاد الاعتماد على إيرادات الصادرات النِّفْطية.
5 – الركود الاقتصادي الذي استمرّ لفترات طويلة توقفت معه آلاف المصانع عن العمل وتراجعت معه الصادرات غير النِّفْطية -القليلة في الأصل- بجانب تحقيق الاقتصاد معدَّل نمو سالبًا استمرّ لعامَي 2012 و2013، وتعافى بعدها في 2014 لكن بمعدَّلات نموّ منخفضة.
6 – القيود والعراقيل المفروضة على التحويلات البنكية التي ما زالت موجودة عمليًّا حتى الآن وتؤثّر بدرجة ما على أسعار الصرف وترفع تكلفة الحصول على النقد الأجنبي ليرتفع سعره في النهاية.
7- زيادة السيولة النقدية في السنوات الأخيرة التي تطيح بالاستقرار المالي للدولة وترفع مستويات التضخُّم وتتراجع معها قيمة العملة مع الوقت، ففي شهر يونيو 2016 ارتفع حجم السيولة النقدية بـ29% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي.
8 – ارتفاع الواردات بعد تخفيف الحظر الدولي منذ بداية العام الحالي والضغط على الاحتياطي الأجنبي لتعويض سنوات من الحرمان سواء على مستوى الأفراد واحتياجاتهم من السلع المختلفة، أو على مستوى المؤسَّسات الإنتاجية التي تقادمت تكنولوجيات إنتاجها ولم تتمكّن من تطوير وسائل الإنتاج وإدخال آلات جديدة أو تطوير القديمة.

» تداعيات الأزمة
أبرز التداعيات الاقتصادية لانخفاض سعر صرف التومان هي ارتفاع معدَّلات التضخُّم باستمرار، لارتفاع تكلفة السلع المستوردة وارتفاع تكلفة الموادّ الخام كذلك، الذي سينعكس على أسعار المنتجات تامَّة الصنع في النهاية.
يهرب المستثمرون من الاقتصادات التي تتصف أسواق الصرف فيها بالتقلب المستمرّ وعدم الاستقرار، لِمَا يتسبب فيه هذا الأمر من خسائر مالية كبيرة عند استيراد مستلزمات الإنتاج وتحويل الأرباح إلى الخارج، لهذا تخطط الحكومة الإيرانية لتوحيد سعر الصرف والاعتماد على سعر السوق الحرة مستقبلًا، ففي عام 2014 جذب الاقتصاد الإيراني استثمارات خارجية مباشرة تقدر بمليارَين و105 ملايين دولار، في حين انخفض هذا المبلغ في عام 2015م إلى مليارَين و50 مليون دولار.
من ناحية أخرى توجد بعض الجوانب الإيجابية لسعر صرف التومان المنخفض، إذ يعطي فرصة للمنتجات محلّية الصنع في منافسة المنتج الأجنبي المستورد الذي صار مكلِّفًا لا يقدر عليه المستهلك، مِمَّا قد يُسهِم في عودة المصانع المغلقة للعمل إذا حُلّت مشكلاتها الأخرى. بالإضافة إلى إمكانية زيادة الصادرات غير النِّفْطية لانخفاض تكلفتها وزيادة تنافسيتها في الخارج، وكذلك زيادة احتياطي العملة الأجنبية وجذب الدولارات المخزَّنة وغير العاملة للقطاع البنكي.
ولا يخلو الأمر من تداعيات اجتماعية خطيرة على مستوى معيشة المواطن، فمع ارتفاع التضخُّم تتراجع القيمة الحقيقية للدخل وما يمكن أن تشتريه النقود، بخاصة مع معدَّلات النموّ المتواضعة وتَوَقُّف عديد من المصانع عن الإنتاج، بمعنى آخر يتزامن ارتفاع معدَّلات البطالة مع زيادة التضخُّم والاعتماد على المستورد لتلبية الاحتياج المحلِّي لتزيد معاناة الأسر كلما كان ذلك مرتبطًا بالسلع الأساسية أو الحساسة كالأدوية المستوردة التي لا يستغني عنها أي مواطن، لكن مع ارتفاع أسعارها وعدم توافر بديل محلِّي ستتراجع الرعاية الصحية وتزيد معدَّلات الأمراض والوفيات في مثل هذه الظروف المعيشية الصعبة.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير