خامنئي وخيانة مبادئ الثورة

https://rasanah-iiis.org/?p=8883

قد يكون تصريح خامنئي الأخير صدمة لبعض هؤلاء المخدوعين بخطاب إيران السياسي، الذين كانوا يُحسِنون الظنّ بذلك النِّظام الذي يدّعي أنه صاحب رسالة عالَمية، ويقدم صورة ملحمية خاصَّة عن الشهادة ضدّ الظلم والطغيان، ويستهدف “نصرة المستضعفين” في المنطقة والعالَم، ويدافع عن المقدسات ويواجه قُوَى الظلم والاستكبار العالَميّ، وغيرها من شعارات الترويج للنظام الذي يبشّر بعودة العدل بعدما مُلئت الأرض جورًا وظلمًا، الأمر الذي كان له صدًى حتى خارج نطاق الحزام الشيعي ذاته، وأكسب إيران وميليشياتها التابعة لها، كحزب الله اللبناني، شرعية شعبية امتدّت في وقت من الأوقات بطول العالَم العربي وعرضه، لكن كما تقول الحكمة الصينية “قد تستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت، أو بعضهم كل الوقت، لكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت”.

لقد نقل قاسم سليماني عن المرشد الأعلى للثورة الإيرانيَّة على خامنئي قوله: “عندما ننظر إلى الدول التي لدينا معها علاقات، فإننا ننظر إلى مصالحنا، سواء أكان الشخص ديكتاتورًا أم لم يكُن”، تلك التصريحات التي كانت في معرض ردّ خامنئي على هؤلاء الذين كانوا يظنون خيرًا في ثورة بلادهم وأهدافها وشعاراتها، وكانوا يتساءلون: كيف لإيران أن تساند الديكتاتور بشار الأسد؟
بلا شك هو خطاب واضح تتكشف تحت مفرداته حقيقة إيران وحقيقة قيادتها وأهدافهم، فليس من أجل العتبات المقدسة كما يدّعون، ولا من أجل الدفاع عن الحسين وزينب ومراقدهم الشريفة كما يحشدون أنصارهم ويؤهبونهم للموت، جاء التدخُّل الإيرانيّ في سوريا وغيرها من دول الجوار، هذا ما فهمه الإيرانيّون أنفسهم وكل العقلاء من أبناء المذهب في المنطقة من هذا التصريح المثير.
ويبدو أن خامنئي قد نسي “عقيدة التَّقِيَّة” التي هي صلب إيمانه، أو أن سليماني قد صرَّح بما كان يفترض أنه جلسة سرية ضمّت المقرَّبين، لهذا كانت ردود الفعل على التصريح كبيرة وعلى نطاق واسع، لأنها تنسف أي أساس أخلاقي للنظام وادِّعاءاته التي يروّجها ليل نهار منذ أكثر من ست سنوات.
لكن يبدو أن هذا هو الواقع على أي حال، فليس مُهِمًّا من وجهة نظر خامنئي ما يحدث للشعب السوري من مآسٍ، وليس مُهِمًّا بالنسبة إليه مقتل ما يقرب من نصف مليون ضحية من أبناء سوريا، ولجوء أكثر من خمسة ملايين آخرين إلى دول العالَم، وغيرهم من النازحين في الداخل، واعتقال وإخفاء أكثر من مئة ألف، ولا يهمّ خامنئي تدمير سوريا وحضارتها وتاريخها ومستقبلها، وخروجها من التاريخ بلا رجعة، لا يهمّه أن تدخل في حرب أهلية لا نهاية لها، ولا يهمّه أن تقسم جغرافيتها، وتحتلّ أرضها ويتلاشى تأثيرها، وكيف يهمه ذلك وهو شريك الأسد في كل ما تشهده سوريا وشعبها؟
لقد دفع خامنئي حزب الله إلى التدخل لوأد مطالب السوريين العادلة، ثم شكّل عشرات الألوية والميليشيات تحت رايات نسبها إلى أهل البيت، كلواء “فاطميون” و”أبو الفضل العباس” و”سيد الشهداء”، وغيرها، تلك الميليشيات التي جُنّد لها آلاف من أبناء المذهب الشيعي في المنطقة الممتدة من شرق آسيا حتى الخليج، وراحوا يعيثون في سوريا قتلًا وتهجيرًا وتنكيلًا بالناس، دون أدنى رادع إنساني أو أخلاقي، ثم كان تدخل القوات العسكرية الإيرانيَّة ذاتها بقيادة قاسم سليماني ذاته، الذي وقف على أطلال حلب، أقدم حاضرة في المشرق، يعلن نصرًا زائفًا على شعب مستضعَف. أي مستضعَفين إذا كانت إيران تسعي لنصرتهم؟ إن تصريحات خامنئي وسليماني تنسف الأساس الأخلاقي الذي يقوم عليه هذا النِّظام، وتنسف الدستور وتنسف مشروع الجمهورية الإسلامية برمته.
المفارقة أن تصريحات قاسمي التي كشفت عن وجه خامنئي شديد البراغماتية الذي يبدو خاليًا من أي بُعد إنساني، اقتداءً بهَدْي أهل البيت الذين يدّعي ومن معه أنهم أتباعهم وأنصارهم، جاءت في ذكرى استخدام ميليشيا بشار الأسد الأسلحة الكيماوية في الغوطة في 2014، تلك الحادثة التي راح ضحيتها أكثر من ألف وخمسمئة سوري أغلبيتهم من الأطفال والنساء، وهي الحادثة التي تمثّل واحدًا من عشرات، بل مئات، من أوجه المأساة التي يعاني منها الشعب السوري منذ اندلاع الأزمة، مما جعلها أسوأ الأزمات على المستوى الإنساني منذ نهاية الحرب العالَمية الثانية، وتُعَدّ إيران شريكًا رئيسيًّا في صناعة مفرداتها.
ما يهمّ خامنئي هو مصلحة إيران التي تتطلب الحفاظ على بقاء بشار الأسد في السُّلْطة ولو كان ديكتاتورًا، ولو كان قاتلًا لشعبه مدمّرًا لدولته.
لا شك أن تصريح خامنئي سيأخذ حقّه من النقاش والتداول داخل إيران وخارجها، لا لأنه يُظهِر جديدًا في مضمونه، فالجميع يعرف أن إيران مارست في سوريا أضعاف ما مارسه بشار الأسد نفسه من مجازر، لكن لأنه خرج من خامنئي نفسه، ليكشف عن حقيقة الرجل وبشاعة خياراته السياسية وتناقض أفعاله مع كل ما يطرحه من مبادئ، بما يضع مكانته الدينية والروحية محل اختبار بين أشياعه والمتأثرين به، كما يكشف عن حقيقة الخلاف في الداخل بين هؤلاء المتوهمين بمثالية المشروع، وتوجهات السُّلْطة التي أكَّدت زيف الشعارات.
في الواقع لو كان التصريح من قائد عسكري أو سياسي يتحدث عن حماية إيران ونفوذها لتَفهَّمناه، لكنه جاء من خامنئي، وهنا تتبدَّى أزمة السُّلْطة والنِّظام في إيران؛ لقد لخص خامنئي حقيقته ومن معه، فما التدخُّل السافر في سوريا سوى مصلحة إيرانيَّة، حسب قوله، لكن هل هي مصلحة وطنية إيرانيَّة فعليًّا، أم إنه تَدخُّل لمصلحة الطغمة الحاكمة التي تهيمن على القرار السياسي لإيران، وتورّط الدولة برمتها في حروب وتدخُّلات خارجية من أجل ضمان محفزات لنظام ومشروع متآكل ومتداعٍ، هذا المشروع الذي فشل في أن يضمن للإيرانيّين من الأساس حياة كريمة، أو يُبقِي لهم دولة قوية تتمتع بالرفاهية والعدل والمساواة، كما فشل في أن يتطور ليكون جزءًا من الحركة التاريخية والإنسانية مِمَّا جعله على وشك أن ينفجر من داخله.
حقيقةً لا بد أن يتساءل هؤلاء: ما عائد المشاركة في الحرب الأهلية في سوريا على دولة إيران وعلى المواطنين الإيرانيّين؟ ألم تخسر إيران تحت وطأة مشاركتها في تلك الحرب شرعيتها الشعبية في محيطها الإقليمي وفي العالَم العربي ككل؟ ألم تنفق من ميزانيتها عشرات مليارات الدولارات على ديكتاتور أصبح إن عاجلًا أو آجلًا خارج أي تأثير، إن لم يكُن أصبح كذلك بالفعل، في وقت تعاني فيه قطاعات واسعة داخل إيران من الفقر والتهميش؟ ألا يتعارض هذا التدخُّل ضد الشعب السوري مع مبادئ الثورة الإيرانيَّة وشعاراتها؟ ألم يسقط كثير من أبناء إيران وقياداتها العسكريين ضحايا هذا الصراع بلا ثمن؟
المستقبل وحده سيكشف كيف أخطأ هؤلاء القادة في إيران في التعامل بتلك البراغماتية المقيتة، وأن المصلحة لم تكُن تصدير العداء والتدخُّل الذي خلّف وراءه مأساة إنسانية في الحقيقة لا يستوعبها نظام لطالما ادَّعى أنه يحمل رسالة أخلاقية وإنسانية للعالَم والمنطقة، كما سيكشف المستقبل عن سوء تقدير من قيادات إيران لحجم قدراتهم الفعلية على ممارسة هذا الدور بتلك الطريقة، لا سيما وأن ما تنفّذه إيران من ممارسات لا يختلف عمَّا تنفّذه أي قوى استعمارية تقول ما لا تفعل وترفع شعارات النصرة والحماية وهي فعليًّا تمارس سياسات التدمير والقتل.


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المركز

د. محمود حمدي أبو القاسم
د. محمود حمدي أبو القاسم
مدير تحرير مجلة الدراسات الإيرانية