استقالة الحريري من رئاسة الحكومة اللبنانية.. الدوافع والدلالات

https://rasanah-iiis.org/?p=9573

بينما تمرّ المنطقة بفترة حرجة تُوصَف بأجواء حرب تدقّ طبولها إيران وحزب الله من ثنايا تأجيجهما الصراعات وخلقهما الاضطرابات في سوريا والعراق واليمن والبحرين والكويت، فجَّر رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري في وجه إيران وحزب الله قنبلة استقالته بتاريخ 4/11/2017، متهِمًا إياهم بتدبير مخطَّط لعودة لبنان إلى أجواء ما قبل عام 2005 بتكرار سيناريو اغتيال والده رفيق الحريري، مقدِّمًا حزمة مبرِّرات منطقية من واقع منصبه لرئاسة الوزراء لما يقارب من عام، تدرأ الاتهامات الإيرانيَّة للسعوديَّة بالوقوف وراء الاستقالة، مُنهِيًا إياها بالوعيد لحزب الله ببتر يديه وأذرعه قريبًا، مما يكشف عن قرب دخول لبنان والمنطقة برُمَّتها مرحلة جديدة لحصار حزب الله وإيران.
وللوقوف على الأسباب الواقعية للاستقالة كان من الضروري تحليل نص الخطاب تحليلًا علميًّا، فقد ذكر الحريري عبارة “خطر حزب الله وإيران” 10 مرات، وعبارة “رفض حزب الله تخليه عن سلاحه” 3 مرات، وعبارة “تجاوز حزب الله القرار اللبناني” 5 مرات، وعبارة “توريط حزب الله لبنان” 3 مرات، وهذا يدلّ على خطورة الموقف ومدى سيطرة الحزب -بقوة سلاحه القادم من إيران وبضعف الرئاسة اللبنانية التابعة لتحالف 8 آذار بقيادة حزب الله- على القرار اللبناني وتخطي المؤسَّسات اللبنانية صاحبة الحق الأصيل في صناعة السياسات والقرارات بما يخدم الأمن اللبناني، وفي ما يلي أبرز دوافع الاستقالة:

1- عودة أجواء ما قبل 2005: تَضمَّن خطاب الحريري تخوُّفه من تكرار سيناريو اغتيال والده رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري عام 2005 بتأكيده أن “هذه المرحلة تشبه مرحلة اغتيال رفيق الحريري”، مضيفًا: “لمست ما يُحاك سرًّا لاستهداف حياتي”، فالدوافع ذاتها التي وقفت وراء اغتيال الحريري الأب تتوافر الآن لاغتيال الابن، لسببين: الأول مطالبته حزب الله بإلقاء سلاحه، والثاني مطالبته الحزب بوقف نشاطاته الإرهابية في الدول العربية لأن ذلك يضع لبنان تحت طائلة العقوبات، ويعكس ذلك قوله: “وأنتم أيها الشعب اللبناني في عين العاصفة ومحلّ الإدانات والعقوبات بسبب إيران وحزب الله”، وهي المطالب ذاتها التي أدَّت إلى اغتيال والده رفيق الحريري.
فموادّ الدستور ونصوص القانون اللبناني منحت الجيش اللبناني الحقّ في الدفاع عن أمن الدولة وحماية حدودها ومجابهة المخاطر، ومن ثم لا يجوز دستوريًّا لحزب الله أن يحتفظ بالسلاح، والأخطر من ذلك استخدام حزب الله -وفق نص استقالة الحريري- السلاح في الداخل وتهديده باستعماله حال عدم الاكتراث بقراراته وسياساته لصالح إيران، وقد تَسبَّب امتلاك حزب الله للسلاح وقتاله في سوريا في استدعاء “الخطر الداعشي” على نحو أدَّى إلى مزيد من التفجيرات بلبنان، مِمَّا أسهم بشكل كبير في توريط الحكومة اللبنانية في معارك مع جهات متطرفة، ودفع فواتير إضافية لتصبح العبارة السائدة في لبنان: “لولا خروج نصر الله إلى سوريا لما رأينا داعش في لبنان”.

2- تمادي حزب الله في استباحة أمن الدول العربية: لم يتحدَّ حزب الله الدولة اللبنانية فقط في حمله السلاح، بل تجاوزها بتدخُّله في الشؤون الداخلية للدول العربية، إما من خلال تدشين أحزاب مماثلة لحزب الله تنتهج نهجه وتسير على دربه في كما هوا الحال في البحرين والكويت، وإما من خلال إرساله المقاتلين والخبراء العسكريين لدعم الأنظمة الموالية مثل المقاتلين من الحزب مع قوات الأسد في سوريا والقتال مع الحوثيين ضدّ الحكومة الشرعية في اليمن والقتال مع قوات الحشد الشيعي في العراق من خلال دعم المكون الشيعي ضدّ المكون السني لإبادة الأخير، ويعكس ذلك قوله: “إيران لديها رغبة جامحة في تدمير العالَم العربي”.
فلا يوجد دليل أقوى من اعتراف الأمين العامّ للحزب حسن نصر الله بوجود قواته في سوريا منذ اندلاع الأزمة 2011، ومشاركته في المعارك كافة، وآخرها معركة حلب نهاية 2016، التي راح ضحيتها مئات آلاف القتلى والجرحى والمشردين واللاجئين، حتى أعلن نصر الله في سبتمبر 2017 النصر في الحرب في سوريا، مشيرًا إلى القتال المتبقي على أنه “معارك متفرقة”، وتتراوح أعداد مقاتليه في سوريا بين 5 آلاف و6 آلاف مقاتل، في حين يبلغ العدد الإجمالي للمجنَّدين بحزب الله ما يقرب من 20 ألف مقاتل.
وبعد الغزو الأمريكيّ للعراق 2003 دشَّن حزب الله كتائب حزب الله العراق الشيعية (إحدى فصائل الحشد الشعبي الشيعي) الموالية لإيران، التي تعسكر في بلدة القائم الحدودية مع سوريا لمساعدة إيران في تنفيذ مخطَّطاتها بمد كوريدور يربط طهران ببغداد فدمشق، وفي اليمن لطالما تمكنت قوات الشرعية من أسر أعداد كبيرة من عناصر ومقاتلين شيعة بينهم مقاتلون إيرانيُّون وعناصر من حزب الله اللبناني لدعم الحوثيين، إما من خلال القتال وإما عبر زرع الألغام.
ولطالما دعم حزب الله نظيره البحريني في الأعمال التخريبية منذ نشأته مرورًا بأحداث شغب 2011، وتَدخُّله في الشأن الداخلي، وتحذيره الحكومة البحرينية من المساس بحياة المتورِّط الشيعي عيسى قاسم في أحداث الشغب بعد قرار سحب الجنسية، وفي الكويت تمكنت السلطات في 2015 من القبض على خلية حزب الله أو خلية العبدلي وبحوزتهم 19 ألف كيلوجرام ذخيرة و144 كيلوجراما من المتفجرات و204 قنابل يدوية و56 قذيفة “آر بي جي”، هرَّبتهم إيران في يوليو 2017، وهو ما دفع الكويت إلى تخفيض عدد أعضاء البعثة الإيرانيَّة.
وشكَّل هذا دافعًا قويًّا للاستقالة بعد استشعار الحرج، بخاصَّة بعد أن شكَّل ذلك دافعًا قويًّا ضمن دوافع أخرى لإدراج دول مجلس التعاون الخليجي الست، ومصر، وجامعة الدول العربية، وفرنسا والولايات المتَّحدة الأمريكيَّة وإسرائيل وكندا وهولندا، حزب الله ضمن قوائم الإرهاب، في حين تدرج المملكة المتَّحدة وأستراليا ونيوزلندا الجناح العسكري للحزب فقط ضمن قوائم الإرهاب.

3- تنفيذ حزب الله للأجندة الإيرانيَّة: لا أحد يشكّ في أن ولاء حزب الله لإيران مقدَّم على ولائه للبنان، ولا نغالي إذا قلنا إن الضاحية الجنوبية من لبنان هي ولاية إيرانيَّة، وإن حزب الله حزب إيرانيّ بامتياز، ودلائل ذلك كثيرة، منها البيان التأسيسي للحزب الذي نصّ على الالتزام بأوامر المرشد الإيرانيّ، ومبايعة قياداته للولي الفقيه وكلاءَ شرعيين لإيران في لبنان بتأكيدهم التابعية للمرشد الإيرانيّ، ومن ناحية أخرى يأتي الدعم الإيرانيّ السياسي والمالي والعسكري للحزب، وإمداده بملايين الدولارات والأسلحة عبر سوريا، وكل هذه دلائل على إيرانيَّة الحزب وعمله لصالح إيران متجاوزًا الدولة ونظامها.
علاوة على ما تَقدَّم يأتي قرار الاستقالة في وقت تشهد فيه المنطقة تحرُّكات وجولات إيرانيَّة لتأكيد النفوذ الإيرانيّ في سوريا والعراق وغيرهما من الدول المستهدفة، وآخر هذه الجولات جولة مستشار المرشد الإيرانيّ للشؤون الدولية علي أكبر ولايتي للبنان وحديثه الخشن في أثناء لقائه الحريري الذي يصل إلى حد البذاءة السياسية قبل يوم واحد من الاستقالة عن خُطَط إيرانيَّة للتوسُّع في سوريا ونيتها الدخول إلى الرقة وطرد الأكراد، بالإضافة إلى قوله إن الانتصار اللبناني السوري العراقي ضدّ تنظيم داعش يشكِّل انتصارًا لمحور المقاومة، وبذلك يكون ولايتي ضمّ لبنان إلى المحور الإيرانيّ دون اعتبار للحكومة والقرار اللبناني، وهو ما أثار قلق الحريري بشأن “تنامي نفوذ” إيران وحليفها حزب الله في لبنان.
وقد سبق لقاء الحريري وولايتي إبلاغ الأول للرئيس اللبناني ميشال عون وتحالف 8 آذار بقيادة حزب الله عدة مرات بأن نُذُر الخطر تُحدِق بلبنان، وأن على حزب الله إجراء تغيير جذري في سياسته، سواء في الخارج أو في استمرار سلاحه غير الشرعي في الداخل، لكن حديثة لم يلقَ أي صدًى، وتمادى الحزب في تدخُّلاته واستباحة الداخل والخارج، ومن ثَمَّ تَبيَّن للحريري أن حدود سلطات الحكومة لا تتجاوز الملفات اليومية المعيشية، في حين يملي القراراتِ السياسية والأمنية حزبُ الله وإيران.
تَبيَّن مِمَّا سبق من أدلَّة واقعية ساقها الحريري أن الاستقالة لم تأتِ من فراغ أو بدافع سعوديّ كما يروِّج الساسة وصناع القرار الإيرانيّون وحزب الله بعد حديث وزير الدولة لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان عن تشكيل تحالف عسكري أسوة بالتحالف العربي في اليمن، لبتر حزب الله من لبنان، وإنما لإدراك الحريري وجود خطر حقيقي يهدِّد أمن الدولة وقياداتها السياسية المعارضة للمشروع الإيرانيّ في لبنان والمنطقة ومعارضة دور حزب الله في حمل السلاح، واستباحة ليس فقط أمن الدول العربية بل والأمن اللبناني ذاته، إذ حوَّل حزب الله الجنوب اللبناني إلى ساحة حرب يدفع ثمنها الوطن اللبناني كله كما جرى إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان 2006، ولا شيء يمنع تَجدُّد ذلك مرة أخرى في ظلّ تحالف ميشال عون مع حزب الله وعدم امتلاكه القرار النهائي في الأمور السياسية وقرارات الدولة خارجيًّا.
ويبدو أن استقالة الحريري ورفضه الإقرار بالأمر الواقع وإعلانه رفض هذا الوضع الذي آن له أن ينتهي، تعكس إدراكًا سياسيًّا بالتوقيت وتشكِّل خطوة في الاتجاه الصحيح في ظلّ المساعي الأمريكيَّة والإسرائيلية لحصار إيران وفرض العقوبات على حزب الله بموجب الاستراتيجية الأمريكيَّة الجديدة التي أعلنتها الإدارة الأمريكيَّة في 13/10/2017 لتحجيم ومحاصرة إيران، وتَوقُّعًا بإمكانية قطع أيادي إيران وحزب الله في لبنان وسوريا، بالإضافة إلى المخاوف الإسرائيلية من تزايد نفوذ إيران وحزب الله في سوريا، وفي المقابل لا يملك الحريري وحزب المستقبل الذي يرأسه، بطبيعة الحال، تلك القوة التي يقطع بها أذرع إيران، أو حتى يخوض بها صراعًا ضدّ حزب الله، وإنما هو يتحدث عمَّا يعلمه أو ما يستشعر من ترتيبات جديدة لمعادلات جديدة، ستُفرَض في لبنان وسوريا.
فهذه الخطوة كانت ضرورية لعزل حزب الله عن الحكومة اللبنانية وإتاحة الفرصة لتشكيل تحالفات دولية لحصاره عسكريًّا وإجباره على إلقاء سلاحه واجتثاثه من الدول العربية، فوجود حزب الله في الحكومة الشرعية يجعل من الصعوبة بمكان استهدافه واجتثاثه، في حين يسهِّل عزله استهدافه ومحاصرته بعد إزالة الغطاء السياسي والقانوني عن حزب الله بصعوبة تولِّيه حقائب وزارية في الحكومة اللبنانية في ظلّ الأزمة اللبنانية الجديدة مع تحالف 14 آذار، بخاصَّة إذا ما أدَّى التحالف دور القوى المعطّلة بعدم مشاركته في الحكومة والبرلمان.
وقد ذيَّل الحريري خطاب استقالته بعبارة بالغة الحساسية والدلالات بكشفها طبيعة المرحلة القادمة، بقوله: “حزب الله وإيران خاسرون، وستُقطَع أيديهم التي امتدَّت إلى الدول العربية، وسيرتدّ الشر إلى أهله”، فمن ناحية لا تُوحِي العبارة بأن تيَّار المستقبل سيكون مشاركًا في أي حكومة تضمّ حزب الله، وإذا ما ضغط حزب الله لتشكيل حكومة فهذا يعني أن لبنان سيكون أمام أزمة جديدة هي أزمة اعتراف المجتمع العربي والدولي، وهو ما قد يزيد الضغوط السياسية والاقتصادية على هذا البلد في ضوء العقوبات التي ستُفرَض في هذه الحالة على حزب الله، ومن ناحية أخرى تشير إلى أن “حدثًا جللًا” يصعب التكهُّن بوجهته وحجمه -رغم ترجيح البعض لحصار الحزب عسكريًّا- قد اقترب في لبنان، بخاصَّة بعد بوادر القضاء على تنظيم داعش في العراق وسوريا، وهو ما يعني أن الخطط الدولية والإقليمية المتعلقة بأحداث المنطقة سوف تنصرف إلى “الترتيبات الأخيرة” للوضع السياسي في سوريا والعراق ولبنان، ولا يمكن عزل استقالة الحريري عن هذه الترتيبات.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير