الشتاء الفارسيّ.. إيرانيّون غاضبون وظروف اقتصادية خانقة

https://rasanah-iiis.org/?p=10248

تونس.. مصر.. ليبيا.. ثلاثة أنظمة سياسية امتدّت ثلاثين سنة قبل أن تتداعى سريعًا، وكان العامل المشترك بينها جميعًا هو “الظروف والأزمات الاقتصادية الخانقة” التي قادت إلى تظاهرات جماهرية من مدينة إلى أخرى تحولت في ما بعد إلى ثورات واسعة النطاق تطالب بإسقاط الأنظمة الحاكمة في نهاية الأمر. وبعد أن خفت ضوء ثورات الربيع العربي منذ سنوات، يبدو أن إيران مع اكتمال نضج نفس العوامل المشتركة واندلاع أزمات كبرى، على موعد ربما مع بداية “شتاء فارسيّ” جديد.
في الذكرى السنوية الثامنة للثورة الخضراء في إيران، ومن ثانية كُبرَى المدن الإيرانيَّة مدينة مشهد (أو “محل الشهادة” كما يعني اسمها الفارسيّ)، انطلقت شرارة التظاهرات إلى مئات من الإيرانيّين الغاضبين مندِّدين بالسياسات التي انتهت إلى ظروف اقتصادية خانقة يصعب التعايش معها، وانتقلت كالعدوى من مشهد إلى مدن أخرى كأصفهان، حتى وصلت إلى العاصمة طهران بعد يومين فقط من بداية التظاهرات احتجاجًا على غلاء الأسعار وتزايد الفقر والبطالة وسوء الإدارة الاقتصادية والسياسية والتدخُّل في شؤون دول الجوار أكثر من الاهتمام بالشأن الداخلي، وهتفوا بشعارات مثل “الموت للديكتاتور” و”اخرجوا من سوريا وفكِّروا في حالنا”، وطالبوا بانضمام باقي الإيرانيّين إلى التظاهرات.

هل الأزمة وليدة اللحظة؟
لا شكّ أن مجموعة من العوامل الاقتصادية وراء التظاهرات المندلعة في إيران حاليًّا، والمتعلقة بإقرار ميزانية العام الإيرانيّ المقبل التي تتضمّن قرارات اقتصادية لها آثار سلبية على المستوى المعيشي، لكن ليست هذه القرارات هي لُبّ الأزمة، بل هي كالقشة التي قصمت ظهر البعير وأثارت الاحتجاجات التي سرعان ما انتقلت من مدينة إيرانيَّة إلى أخرى.
قدّم الرئيس الإيرانيّ حسن روحاني مشروع موازنة العام الإيرانيّ المقبل -يبدأ في مارس 2018- للبرلمان للتصديق عليه، وتَضمّن قرارات ستؤثر مباشرة على الأسعار ومستوى معيشة المواطنين، كرفع سعر الوقود بنسبة 50 في المئة، ورفع الدعم النقدي عن أكثر من 34 مليون إيرانيّ، المقدر بنحو 11 دولار شهريًّا للفرد (4.5 مليار دولار تقريبًا في العام إجماليًّا) بدافع تقليص عجز الموازنة الحكومية، يبدو أنه لكي يشجع أعضاء البرلمان ذي الأغلبية الأصولية على الموافقة على مشروع الموازنة ورفع نسبة المخصصات المالية الموجهة لكل من الحرس الثوري الإيرانيّ والمؤسَّسات التابعة للمرشد علي خامنئي، أو بمعنى آخر سيكون تقليص عجز الموازنة على حساب فقراء ومتوسطي الدخل في إيران، وهم غالبية الشعب، لأن رفع أسعار الوقود سيرفع مستويات الأسعار عمومًا، بخاصَّة أسعار الموادّ الغذائية، وكان سبب الدعم النقدي المقدَّم من الحكومة للمواطنين هو تقليل الأثر السلبي لمثل هذه السياسات على محدودي الدخل. والعجيب أن القرار الإيرانيّ برفع أسعار البنزين جاء بعد الإعلان عن الاكتفاء الذاتي من إنتاج البنزين محليًّا بعد تشغيل مصفاة “نجمة الخليج” منذ شهور.
أما إذا ما نظرنا إلى أسباب التظاهرات المندلعة بمنظار أعمق، فسنرى ظروفًا اقتصادية صعبة عاشها الإيرانيّون خلال عقود من العقوبات الاقتصادية الناتجة عن الأزمات السياسية مع كثير من دول العالَم، بلغت أقصاها في عام 2012 لتشمل قطاعات اقتصادية حيوية بالنسبة إلى الاقتصاد الإيرانيّ، انعكس صداها على مستوى المعيشة والخدمات المقدمة للمواطن، إذ شملت العقوبات حظر تصدير النِّفْط الإيرانيّ إلى الخارج، وحظر تصدير التكنولوجيا وقطع الغيار إلى إيران، وحصارًا بنكيًّا دوليًّا على التحويلات المالية مع إيران تَرتَّب عليه تقييد التجارة من إيران وإليها، وحرمان الإيرانيّين من الواردات والموادّ الخام اللازمة للصناعة.
هنا أدَّت هذه العوامل مجتمعةً إلى موجات تصاعدية من ارتفاعات الأسعار وصلت نسبتها إلى نحو 40% عام 2013 خالقة معها أعدادًا متزايدة من الفقراء في حاجة إلى الدعم، وعلى الرغم من تراجع التضخُّم بنهاية الولاية الأولى لروحاني إلى حدود 10%، لم يتقلص حجم الفقراء، وتراوح عدد الإيرانيّين الذين يعيشون في فقر مُطلَق (لا يجد ما يشبع أساسيات الحياة) بين 10 و12 مليون إيرانيّ، أي نحو 15% من الشعب وفي حال رفع الدعم يُتوقَّع وصول عدد الفقراء في إيران إلى 54 مليون إيرانيّ، أي أكثر من 67% من الشعب. كذلك اتجهت مستويات البطالة إلى التزايد حتى بعد تطبيق الاتفاق النووي في مطلع 2016، بخاصَّة بين فئات الجامعيين -عاطل بين كل ثلاثة جامعيين- وهم الأكثر قدرة على الاحتجاج المنظَّم كما سبق وحدث في ثورات الربيع العربي في مصر وتونس، وكما حدث في إيران من قبل في أثناء تظاهرات الطلاب عام 2009 يتكرر السيناريو ذاته حاليًّا.
من ناحية أخرى أسهم إنفاق النِّظام الإيرانيّ أمولًا طائلة على الإنفاق العسكري خارج الحدود الإيرانيَّة بدلًا من مواجهة الأزمات الداخلية في استمرار تَرَدِّي الأوضاع الاقتصادية في الداخل وزيادة السخط الشعبي تجاه صناع القرار الإيرانيّين، لذلك ظهرت شعارات مثل “اخرجوا من سوريا وفكِّروا في حالنا”، ففي سوريا وحدها ينفق النِّظام الإيرانيّ ما يفوق مليار دولار سنويًّا في شكل رواتب تُقَدَّم للمقاتلين هناك من الجنسيات المختلفة (وَفْقًا للمجلس الوطني للمقاومة الإيرانيَّة)، وهذا المبلغ لا يشمل الإمداد العسكري أو المالي في أشكاله الأخرى.

هل لاندلاع التظاهرات من مدينة مشهد دلالة ما؟
يكشف اندلاع التظاهرات من مدينة مشهد عن أزمات مضاعفة ومستترة في باقي المدن الإيرانيَّة. تُعَدّ مشهد قِبلة للشيعة من داخل وخارج إيران بسبب مكانتها الدينية واحتوائها على مقام الإمام الرضا، ممَّا يجعلها من أهمّ المراكز الاقتصادية والسياحية في إيران وتتمتع بعناية وخدمة خاصَّة من الدولة لمرافقها كافة بوصفها أهمّ مزار ديني في البلاد، وينعكس هذا على ساكنيها، ومن المفترض أن يتمتع نسبة لا بأس بها من أهلها بمستويات اقتصادية أفضل من غيرهم في باقي المدن الإيرانيَّة، لأن حركة الوفود والزائرين المستمرة إلى المدينة تنشِّط التجارة والسياحة وتشغِّل جانبًا كبيرًا من أهل المدينة، لكن خروج أهلها للاحتجاج على ظروفهم الاقتصادية رغم مكانة مدينتهم بالنسبة إلى النظام، قد يعني أن الأوضاع في باقي المدن الإيرانيَّة الأقلّ حظًّا من مدينة مشهد أكثر سوءًا بمراحل مِمَّا يشعر به قاطنو المدينة الدينية، ويرجِّح انتشار التظاهرات إلى باقي المدن الإيرانيَّة، وهو ما ستؤكِّده أو تنفيه الأيام القادمة.
ستتوقف سرعة ومدى انتشار التظاهرات في إيران خلال الأيام المقبلة على درجة استجابة المسؤولين في إيران ونوعية تعاملهم مع المتظاهرين، وفي حال استخدام العنف معهم سيرتفع سقف المطالب وتزداد الاحتجاجات الشعبية وتتحول من تظاهرات منددة بتردِّي الأوضاع الاقتصادية إلى تظاهرات قد تطالب بإسقاط النِّظام القائم بأكمله، كما حدث مع نماذج عربية منذ سنوات قليلة.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير